recent
مستجدات

إذلال الأستاذ خيار استراتيجي للدولة

إذلال الأستاذ خيار استراتيجي للدولة

*عاهد ازحيمي
مهما قيل في حق الأستاذ إلا أنه سيبقى دائما وأبدا ذلك العنصر الذي لا يمكن الاستغناء عنه داخل المجتمع، ومن المستحيل تعويض مكانته، أو إسنادها لأي عنصر من العناصر المكونة للمجتمع، وكلما تم الحط من مكانته إلا وانحطت معه الدولة واندحرت.
فبفضله بعد الله تعلمنا القراءة والكتابة، فكلنا يتذكر ذلك اليوم الأول من التحاقنا بالمدرسة ونحن مازلنا لا نفرق بين “الألف والزرواطة”، ونخلط بين الأرقام من واحد إلى خمسة. وبمساعدة المعلم صرنا نقرأ الحروف ونركب الجمل، ونعد الأرقام ونجمعها ونطرحها.
وما انتقلنا من مستوى دراسي إلى آخر إلا وحملنا معنا إما جزءا أو كلا مما درسه لنا أساتذتنا، رغم قساوة بعضهم علينا بالسب والضرب أحيانا، إلا أنهم كانوا أرحم من المسؤوليين بهذا الوطن، حيث كان المدرس هو أول من ينصح وينهى ويستمع ويرشد ويعلم ويربي، مقابل أجر زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع، بينما ظل المسؤول يغتني ويقدم الوعود وراء الوعود دون أن يفي بها يوما، فصارت المدارس بسبب الإهمال أقرب منها إلى الأكواخ من المؤسسات العمومية، أغلبها غير متصل بشبكتي الماء والكهرباء ومن دون مراحيض، ولا يوجد بها سكن لا بالنسبة للأستاذ أو التلميذ، وفي هذه الظروف القاسية بقي الأستاذ ذو الضمير وحده يحترق لكي ينير من حوله من التلاميذ ناكرا للذات ومتحملا لكل الأعباء.
هذا المكانة التربوية التي تبوأها الأستاذ داخل المجتمع، بالإضافة للأدوار الأخرى التي كان يضطلع بها على المستوى السياسي والنقابي والثقافي والصحفي إضافة إلى الجانب التوعوي، جعلته يزعج السلطة، ولذلك أصبحت الدولة بعد الاستقلال تحسب له ألف حساب، وتحتاط منه كثيرا لما له من تأثير على من حوله، كما أن مكانته من الصعب زحزحتها بسهولة. فأعلنت على الأستاذ حربا ناعمة، بدأت بالتنكيت واتخاذه كمادة دسمة في الأوساط والمجامع الشعبية، ثم انتقلت هذه الحرب إلى الإعلام الذي قام بتنميط شخصيته والتقليل منها شكلا ومضمونا، واستغلال أبسط الأخطاء للبعض للتشهير بسمعة الأستاذ بصفة عامة، في حين ظل هذا الإعلام يتغاضى بشكل يومي عن فضائح المال العام والمسؤولين ورجال السلطة والمال، بينما بمجرد ما يسقط أحد الأساتذة في المحظور حتى تتجند الصحف الصفراء للبحث عن تفاصيل الحادث وحيثياته ثم تعميمه على الجميع.
وستزداد هذا الحرب ضراوة، بعدما اخترق قطاع التعليم مجموعة من الانتهازيين والمتملقين والانبطاحيين، الذين عملوا على تكريس تلك الصورة التي حاول الإعلام إلصاقها بالأستاذ، بتهافتهم على مصالحهم الخاصة، وتجردهم من الضمير المهني، فوجد المجتمع في هؤلاء الدخلاء على مهنة التعليم، مادة دسمة لأحاديثهم وأمثلة حية لنكتهم.
ويحق للبعض أن يتساءل عن سبب هذه الحرب المعلنة ضد الأستاذ، لكن المطلع على تاريخ الحركات الاحتجاجية في المغرب، سيعرف الجواب من دون شك، وهو كون الأستاذ كان دائما في قلب الأحداث، وخاصة في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، حيث كان رجال التعليم في الابتدائي والثانوي والجامعي يحملون مشعل النهضة والإصلاح، ومدافعين عن المواطن والحق العام، ومناشدين للحرية والعيش الكريم، ومطالبين بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومشجعين تلاميذهم وطلبتهم على ثقافة القراءة والنقد البناء، وتحريرهم من ثقافة الخضوع والانحناء، وتدريبهم على الجهر بقول “لاء”.
فكان المغرب في هذه المرحلة يسير على السكة الصحيحة نحو المستقبل، حيث كان الحزب حزبا والنقابة نقابة والجمعية جمعية والأغلبية أغلبية والمعارضة معارضة والإعلام إعلاما والجريدة جريدة والأستاذ أستاذا والمدرسة مدرسة والجامعة جامعة والتلميذ تلميذا والطالب طالبا، رغم ما ميز المرحلة من صراع إيديولوجي وتجاذب فكري قوي إلى درجة التناقض، إلا أنه كان للمفاهيم معنى، وللكلمة الحق صدى. فكان أولى تجليات ذلك ظهور حركة تلاميذية وطلابية قوية، ووعي مجتمعي مهم بالقضايا الوطنية والمجتمعة والدولية.
اضغط التالي لمتابعة قراءة المقال
<><>
وهكذا تسرب بفضل المدرسة والجامعة الوعي إلى المجتمع المغربي، عن طريق التلاميذ والطلبة الذي صاروا ينقلون إلى بيوتهم ومحيطهم ما يلقنه لهم أساتذتهم من أفكار تنويرية تصب كلها في زعزعة التفكير الخرافي، فتنامت بين الناس حرقة السؤال عن الحق والعدل والكرامة والحرية والمساواة والثروة، بدل السؤال عن الجن والعين والنحس والكرامات والبركة والخوارق …، فكان هذا التحول في ذهنية المجتمع المغربي كافيا ليجعل مالكي وسائل السلطة والإنتاج والدعاية تعي بالخطورة التي بدأت تواجه مصالحها القائمة على الجهل والإخضاع والاستغلال والخوف والفقر والحرمان والإحباط ….
وفي ظل هذا الصراع بين الوعي وآل التحكم، اندلعت هذه الحرب الناعمة ضد منابع الوعي وخاصة المدرسة والجامعة، وإفراغهما من الأدوار المنوطة بها، عن طريق القتل الرمزي للأستاذ الذي يعد الفاعل الأساسي داخلها، وذلك بإسقاط هيبته في المجتمع وتقييد سلطته المعرفية والمهنية، بتبني سلسلة من الإصلاحات غير المنسجمة والمتناقضة، جعلت من المدرسة والجامعة فضاءات لإجراء الامتحانات وتوزيع الشواهد، وليس لإشباع نهم التلاميذ والطلبة بالعلم والمعرفة وتربيتهم على القيم الانسانية. وهو ما انعكس سلبا على المجتمع الذي صار يعيش في فوضى واضطراب فكري وثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي ونقابي وإعلامي، وصارت كل الأشياء زائفة، وفاقدة للمعنى، وانحط الذوق، وسادت التفاهة في كل المجالات.
واهٍ من اعتقد بأن تحقيق المردودية في قطاع التعليم يقوم على جعل الأستاذ تحت السلطة، وجعله معرضا للعزل في كل وقت، لأن ذلك من شأنه أن يخلق التملق والتزلف والرشوة والانصياع للأوامر وتطبيقها بالحرف حتى وإن كانت خاطئة وهو ما سيزيد من خلق التفاوت الاجتماعي بشكل أكبر، حيث من يملك السلطة أو المال سيعبد الطريق لأبنائه دون مطبات، بينما سيجد أبناء الفقراء كل الطرق موصدة في وجههم مهما كانت كفاءاتهم، وذلك ما صارت تعاني منه عدة أسر المعوزة منذ مدة ….
إن مطالبة الأستاذ بحقوقه وحريته، فذلك لا يعني أنه يطالب بالتغاضي عن من لا ضمير لهم، وتركهم يفعلون ما يشاؤون، بل إنهم إلى جانب ذلك يحملون المسؤولية للدولة التي لا تسهر على التتبع المستمر للموارد البشرية وتقيمها وتأهيلها، ودعمها بكل الوسائل الديداكتيكية التي من شأنها أن تمكن الاستاذ من أداء رسالته التربوية والأخلاقية، وليس فقط تقييمها بطرق تقليدية بوليسية ….
إن جعل الاستاذ خاضعا ذليلا يعني أن المدرسة والجامعة ستصبح آلة لانتاج شعوب خاضعة لا رأي ولا صوت لها فاقدة للكرامة، جاهلة بحقوقها، تافهة استهلاكية، غير منتجة، …..
*كاتب رأي وباحث في التاريخ والتراث
إذلال الأستاذ خيار استراتيجي للدولة
دفاترتربوية

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent